- سمع
الصِّديق أخبار الدعوة الجديدة من حامل لوائها- عليه الصلاة والسلام- ففتح لها
سمعه, وقلبه, وعقله.
فأسلم, وكفر بالأصنام, وخلع الأنداد, وأقرَّ بحق الإسلام, ورجع وهو مُؤمن
مُصدِّق, ومضى أبو بكر فراح لعثمان وطلحة والزُّبير وسعد فأسلموا, ثمَّ جاء اليوم
الثاني عثمان بن مظعون, وأبي عُبيدة بن الجراح, وعبد الرحمن بن عوف, وأبي سلمة بن
عبد الأسد, والأرقم بن الأرقم, فأسلموا.
طار خبر إسلام الصِّديق- رضي الله عنه- إلى كُفار قريش, فاستشاطوا غضباً,
وتميَّزوا غيظاً, وأقسموا ليؤذنَّه أشد الإيذاء, وليقابلنه بالتوبيخ والاستهزاء,
وهو السيد المُطاع صاحب الأخلاق.
واشتد الأذى على الصِّديق- رضي الله عنه- فاضطر أن يَخرج مُهاجراً نحو أرض
الحبشة, حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدِّغِنة, - وهو سيد القادة- فقال: أين
تريد يا أبا بكر؟
[برك الغماد: موضع باليمن أو موضع وراء مكة بخمس ليالٍ]
فقال أبو بكر: أخرجني قومك, فأريدُ أن أسيح في الأرض فأعبد ربي.
فقال ابن الدِّغنة: إنَّ مثلك يا أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرَج, إنك تُكسِب
المعدوم, وتَصل الرَّحم, وتحمل الكلَّ, وتُقري الضيف, وتُعين على نوائب الحق,
فارجع فاعبد ربك ببلدك.
[الكلَّ: الضعيف, تُقري: تُكرم, نوائب الحق: تُعين على المصائب التي هي حق]
فارتحل ابن الدغنة, ورجع مع أبي بكر, فطاف ابن الدِّغِنة في كفار قريش.
فقال: إن أبا بكر لا يَخرج مثله, ولا يُخرج, أتُخرجون رجلاً يُكسِب
المعدوم, ويحمل الكلَّ, ويُقري الضيف, ويُعين على نوائب الحق.
فأنفذت قريش جوار ابن الدِّغنة, وأمَّنوا أبا بكر, وقالوا لابن الدِّغنة:
مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره, وليُصلِّ ما شاء, وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا, ولا
يشتغلن بالصلاة والقراءة في غير داره, ففعل.
[فأنفذت: أقرَّت]
ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً في فناء داره, فكان يُصلِّي فيه, ويقف عليه
نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه.
وكان أبو بكر رجلاً بَكَّاءً لا يملك دموعه حين يقرأ القرآن, فأفزع ذلك
كفَّار قريش, فأرسلوا إلى ابن الدِّغِنة فقدم عليهم.
فقالوا: إنَّا أجرنا لك أبا بكر على أن يعبد الله في داره, وإنه جاوز ذلك
وابتنى مسجداً بفناء داره, وأعلن الصلاة, وإنا خشينا أن يُفتن نساؤُنا وأبناؤنا,
فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد الله في داره فعل, وإن أبى إلا أن يُعلن ذلك فسلهُ
أن يرد عليك ذمتك, فإنا قد كرهنا أن نخفرك, ولسنا مُقرين لأبي بكر بالاستعلان.
فأتى ابن الدِّغنة أبا بكر فقال: يا أبا بكر قد علمت الذي عقدت لك عليه,
فإمَّا أن تقتصر على ذلك, وإمَّا أن ترد ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني
أُخْفِرت في عقد رجل عقدت له.
قال أبو بكر: فإني أردُّ عليك جوارك, وأرضى بجوار الله.
[نخفرك: ننقض عهدك]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
سيتم مراجعة التعليقات قبل نشرها وحذف التعليقات غير اللائقة